المسؤولية الاجتماعية الدينية في سياقات العصر
حوارات عديدة أفرزتها جائحة كورونا، وزخرت مواقع التواصل الاجتماعي بروابط لعدد لا يحصى من الندوات والحوارات، ويبدو أن الخلاقية في نقل الفعاليات من الواقعي إلى الافتراضي باتت كثيرة.
إلا أن فترة الحجر المنزلي أيضاً أعطتنا الفرصة لتقييم جميع هذه المشاركات وأصبحنا انتقائيين في حضور أي ندوة افتراضية. وقد كانت لي فرصة المشاركة في ندوة اعتبرها مختلفة في الطرح وهو تعزيز الخطاب الديني لخير الحياة العامة على الخاصة. وبحضور ضيوف مميزين من مختلف البلاد العربية وبتنظيم من مؤسسة أديان ضمن سلسلة "أديان بلا جدران" عن قيم المسؤولية الاجتماعية الدينية في سياقات العصر.
وتم التركيز على ثلاث قيم مجتمعية: الخير العام، والعدل والرحمة. وإذا ما ناقشناها من زاوية المصير المشترك للإنسانية في ما بعد الجائحة، فتعلمنا هنا بضرورة تقلص الفجوة وتقديم المصلحة العامة على الخاصة.
وقد أقر المشاركون في الندوة بأهمية المسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتق القادة الدينيين، وكيف أن عليهم أن يكونوا جزءاً من صنع السلام، وهو دور مهم بفضل فاعليتهم وثقلهم. فالسيناريوهات كثيرة لتطور كوفيد-19، بعضها لا قدر الله تداعياتها خطيرة لا سيما على الاقتصاد، وما ستواجهه البشرية من آثار كارثية قد تؤدي للجوع في بعض البلدان، ناهيك عن المخاطر الصحية. لذلك، فإن المسؤوليات الملقاه على القيادات الدينية ستكون أكثر جسامة.
إن نشر ثقافة الوئام والعيش المشترك هو واجب كل شخص، ولا نستطيع أن نكون متفرجين
والتساؤل هنا، كيف يجب بث الأمل والطمأنينة في المجتمعات، بدلاً من تخويف العامة بأن هذه الجائحة هي غضب إلهي أو بلاء وما شابه، وكيف عليهم توجيه اتباع الديانات للتفكر في أسئلة جوهرية مثل الهدف من حياتنا، وترتيب أولوياتنا، وما هي الجوانب القيمية التي نحتاجها في هذه الأزمة مثل التعاضد المجتمعي، وقيم الرحمة والتكافل والعطاء.
بالإضافة إلى الحاجة للخطاب الديني المرتكز على العلم والدين وعدم إهمال الجانب العلمي، فالأزمة وفرت فرصة لشراكة حقيقية ما بين المؤسسات العلمية والدينية للخروج من هذه الأزمة. فينبغي للدّين أن يكون منسجماً انسجاماً تاماً مع العلم وأنَّه واحد من أهمّ عوامل السّلام والتّقدم المقدّر للمجتمع الإنسانيّ. وبالتأكيد تعزيز الوحدة والاتحاد من خلال التوفيق بين العناصر المتباينة هو أيضا من مهمة الدين وواجبه. فلا يمكن ان نجعل الدين سببا للاختلاف أبدا.
إن نشر ثقافة الوئام والعيش المشترك هو واجب كل شخص، ولا نستطيع أن نكون متفرجين، وقد أثبتت هذه الجائحة انه لم يعد هناك نحن وهم، لم نعد منفصلين، بل جميعنا في مركب واحد مصممين أن نخرج منه وقد اكتسبنا وعيا جماعيا بأن ما يحدث في العالم في مواجهة كورونا تجلى في كيف أصبح العالم قرية واحدة وان مشاكله مترابطة.
ووعينا بات يقاس بحقيقة إنسانيتنا المشتركة وكيف يجري التعاون العالمي لاكتشاف حل لهذا المرض، وهذا يدل على أننا أصبحنا نرى أبناء جنسنا كأعضاءٍ لعائلةٍ إنسانيةٍ واحدةٍ.
وعودة للندوة، فقد تمت مناقشة كيف يمكن أن نرعى بيئات يمكن أن ينمو فيها الأطفال دون ملوثات من شتى انواع التعصبات، ويريدون المساواة التامة ما بين الرجال والنساء في شؤون وطنهم، وفي برامج تعليمية وترحب بكل من يريد أن يساهم في تطور مجتمعة بصرف النظر عن المعتقد والثقافة والطبقة، وكيف نشجع الشباب أن يساهموا في محادثات جادة في كيفية تحقيق الصلاح الروحاني والرفاه المادي من خلال تطبيقهم لتعاليم دينهم.
نحتاج لخطاب ديني مرتكز على العلم والدين وعدم إهمال الجانب العلمي
فالجماعات الدينية لا تستطيع الترويج للخير العام إلا إذا أعادت خطابها على أساس المعتقد الديني ذي البعد العام وتعزيز الثقة بالآخر على أساس الشراكة الإنسانية في وقت الجائحة، بأن يكون هناك تصالح ما بين العلم والدين، فهناك انفصام أحيانا في ما تقوله المؤسسات الدينية ولا بد من تكامل ما بين هذين الخطابين وتعزيز الخطاب الإيجابي.
إن مثل هذه الندوات الافتراضية التي اتاحت الفرصة لملاقاة مفكرين وقادة دينيين متنورين من مختلف البلدان، يراودنا تفكير بأنه قد بدأ القادة والمفكّرون والمحلّلون في استكشاف المفاهيم الأساسيّة والتّطلّعات الشّجاعة التي كانت غائبة إلى حدٍّ كبير عن الحوارات العامّة في الآونة الأخيرة. إنّها ليست سوى ومضاتٍ مُبْكِرةٍ، مع ذلك فهي تحمل في طيّاتها إمكانيّةَ أن تُسفر عن لحظةٍ من وعي جماعي.