الرقابة الأسرية في العصر الرقمي
تعمقت الرقمية في نسيج الحياة الإنسانية، ولم يعد الإنسان قادرا على الفكاك منها، أو حتى التفكير بدونها، فصارت تصوغ وعيه بذاته، ووعيه بالعالم. وكانت الأسرة من أهم الساحات التي شهدت ذلك التحدي الكبير، فلم يعد الأبوان يسيطران على عملية التربية والتوجيه السلوكي لأبنائهم؛ بل تدخل الرقمية كفاعل رئيسي يفوق سلطتهما وقدرتهما على التأثير، كما أن الرقمية جــرت الكثير من المشكلات والمخاوف، لضعف أدوات الرقابة. فكيف هي الرقابة الأسرية في العصر الرقمي؟
فرض هذا التفشي الرقمي ضغوطا جديدة وغير مسبوقة على الوالدين في ممارسة مسؤولياتهم الأسرية تجاه الأبناء، وأوجـب على الوالدين تطوير مهاراتهم الرقمية لاكتساب المهارة على متابعة الأبناء، والحيلولة دون انجرافهم لسلوكيات مشينة، أو تعرضهم للابتزاز والإساءة من الآخرين من خلال الوسيط الرقمي.
ويبدوا أن الرقابة الأسرية في العصر الرقمي، ورغم انتشار الكثير من الدورات التدريبية، والاعلان عن تقنيات وبرامج تُمكن الوالدان من رقابة أبنائهما على الانترنت، أو النصائح التي يقدمها رواد التربية والتنمية البشرية للوالدين، لتجنب الصدام داخل الأسرة، إلا أن القليل هو من يهتم بغرس القيم الأخلاقية والضميرية في نفوس الأبناء، كأحد أهم الوسائل الرقابية النابعة من الذات، وليس كسيف مسلط من الخارج.
الرقابة الأسرية في العصر الرقمي واتساع المخاطر
في مسألة الرقابة الأسرية في العصر الرقمي، ومن مظاهر غياب الراقبة الضميرية في العالم الرقمي، هو انتشار ظاهرة التنمر ، وهي ظاهرة لا تقتصر على الدولة المتقدمة وحدها، ولكنها منتشرة عالميا، لكن المجتمعات المتقدمة تمتلك إحصاءات حولها، ففي المجتمع الأمريكي-مثلا- خلصت دراسة على عينة من المراهقين، أن 65.5% منهم يعتبرون أنفسهم ضحايا عبر الأنترنت، وأن 56.6% يعتبرون أنفسهم متنمرين، وفي دراسة اخرى أجرها معهد “بيو” لأبحاث الدين عام 2018م، وجدت أن 59% من الشباب الأمريكي تعرض للتنمر ولو لمرة واحدة على الانترنت.
وتشير احصاءات أمريكية أن 41% من البالغين في الولايات المتحدة تعرضوا لشكل من أشكال التحرش على الانترنت، وأن 92% من الأمريكيين يعتقدون أن التنمر على الانترنت مشكلة، وأن 55% من هؤلاء يعتقدون أنها مشكلة كبيرة، وأن أكثر من 75% يظنون أن جهود مكافحة التنمر على الانترنت غير فعالة.
وأوضحت منظمة منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونسيف أن التنمر على الانترنت وصل إلى أبعاد خطيرة، ولهذا يبدي الآباء الكثير من القلق حياله، سواء في حال قيام الأبناء بممارسته، أو وقوعهم ضحية له، مما يزيد أكثر من صعوبة الرقابة الأسرية في العصر الرقمي.
ويلاحظ أن الكثير يختبيء خلف الشاشات ويتنمر ويسيء للآخرين، ظنا أن برامج الرقابة لن تصل إليه، أو أن باستطاعته التخفي، ومع هذا الوهم الطاغي في أن العقوبة بعيدة عنه، فإنه يطغى ويتمادى، وربما انتقل من العالم الافتراضي إلى الواقع لينفذ جريمته.
إحصاءات الأمم المتحدة، تؤكد أنه مع تحول الرقمية لجزء لا يتجزأ من الحياة الحديثة، فإن البعض من الشباب لم يعد أمامه إلا فرصة ضيئلة للهروب من التنمر الرقمي، وهو ما يسبب لهم القلق والتوتر، وربما دفع بعضهم للانتحار، وتشير الاحصاءات أن 10% ممن تعرضوا للتنمر الرقمي حاول الانتحار، وتشير الاحصاءات الأممية التي جرى فيها تحليل (19) مليون تغريدة على مدى أربع سنوات، أنه تم إحصاء أكثر من خمسة ملايين حالة كراهية للنساء على موقع “تويتر” وحده، وأن 51% من تلك الاهانات والتنمرات كتبتها نساء ضد نساء مثلهن، كما وجد التقرير أن هنا حوالي 7.7 مليون تغريدة عنصرية.
والواضح في مسألة الرقابة الأسرية في العصر الرقمي، أن تلك الاساءات غير مرتبطة بجغرافية أو ثقافة بعينها، ولكنها مبثوثة في العالم، وأن البعض يوجه إساءاته إلى أشخاص لا يعرفهم في كثير من الأحيان، وأن التنمر المجهول المصدر هو الأكثر إثارة للقلق، لغموض دوافعه، وهذا قد يخلق رهابا من الرقمية ذاتها.
ويعمق هذا القلق تحول الرقمية لمجال خصب للأرباح المهولة، وضعف سلطة الأسرة على أبنائها، وعدم استطاعة الآباء إيجاد توازن بين استخدام الأبناء للرقمية وبين إيجاد هامش معقول من الرقابة على هذا الاستخدام، وهو ما جعل مهمة الآباء صعبة، وتبدو ذات وجه استبدادي، قد يؤثر على العلاقات داخل الأسرة.
الضمير قبل الآلة
لا شك أن أسلوب التربية غير المناسب للأبناء، يقود-غالبا- إلى سلوكيات سلبية، وأن العامل المؤثر في التربية هو التطبيق السلوكي قبل المواعظ والنصائح النظرية، وأن التدين له تأثير على تشكيل القيم السلوكية للأبناء وتوجيههم، وفي العصر الرقمي قد يتقن الأبناء التكنولوجيا، وبالتالي فإن الرقابة الأسرية في العصر الرقمي ليست سهلة، فالأزمة أنهم قد لا يتقنون الأخلاق بنفس القدر والكثافة، ومن ثم فإزالة الأمية الرقمية لا تعني تزويد الأفراد بمهارات الاستخدام، ولكن تزويدهم بأخلاقيات الاستخدام وواجباته ومحاذيره الأخلاقية والقيمية.
تؤكد الأبحاث أن أساليب التربية التي تراعي العاطفة وتهتم بها وتستجيب لها يكون تأثيرها أكبر على الأبناء، ولا شك أن التدين والأخلاق من أكثر ما يثير العاطفة والوجدان، كما أن التربية المتساهلة، الخالية من الانضباط والقيم، تقود إلى مشكلات سلوكية.
ومن الناحية التقنية فالبرامج والوسائل التقنية التي تكفل مراقبة الآباء لأبنائهم على الانترنت، لا تفي بالغرض، فالرقابة الأسرية في العصر الرقمي أمر ليس في المتناول ويحتاج إلى جهود مضاعفة، إذ أن هؤلاء الأبناء ذوي مستوى متقدم في التحايل على الأدوات الرقابية، ومن الناحية الأخرى فغالب الآباء لا يمتلكون المهارات الرقمية التي تكفل لهم القيام بالمراقبة، كما ان العديد من الشركات لم تستطع أن تواكب التطورات الرقمية المتلاحقة.
والحقيقة أن الرقابة الأسرية في العصر الرقمي وغرس الرقابة الضميرية والأخلاقية في نفوس الأبناء هي البديل الأكثر حظا في الحماية من الأخطاء والأخطار في العالم الرقمي، وإيجاد حماية ووقاية من نقاط الضعف التي تتوحش عندما يظن الشخص أن بقدرته ارتكاب الخطأ دون محاسبة.
الرقابة الأسرية في العصر الرقمي
وهنا نجد دور الدين وخاصة الإسلام في مسألة الرقابة الأسرية في العصر الرقمي وغرس الرقابة الضميرية في العالم الرقمي، فـ “الرقيب” من أسماء الله تعالى، وهذا الاسم العظيم يرسخ في النفس اطلاع الله الدائم على نوايا الإنسان وأفعاله، ويُنشيء اعتقادا داخليا باطلاع الله الدائم؛ وأن باطن الإنسان كظاهره بالنسبة للخالق سبحانه وتعالى، ومع استحضار المراقبة ترتعش جوارح الإنسان عن فعل الشر، حتى ولو لم يطلع عليه أحد من الناس، فتلك المراقبة الضمير تخلق القلب المتيقظ، لذا قال السلف الصالح: “من راقب الله أحسن عمله”، وجاء في تفسير” في ظلال القرآن” في قوله تعالى “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ” (سورة ق – 16)
“وهكذا يجد الإنسان نفسه مكشوفة لا يحجبها ستر، وكل ما فيها من وساوس خافتة وخافية معلوم لله، تمهيدا ليوم الحساب الذي ينكره ويجحده! ونحن أقرب إليه من حبل الوريد” وهو تعبير يمثل ويصور القبضة المالكة، والرقابة المباشر، وحين يتصور الإنسان هذه الحقيقة لا بد يرتعش ويحاسب، ولو استحضر القلب مدلول هذه العبارة وحدها ما جرؤ على كلمة لا يرضى الله عنها؛ بل ما جرؤ على هاجسة في الضمير لا تنال القبول، وإنها وحدها لكافية ليعيش بها الإنسان في حذر دائم وخشية دائمة ويقظة لا تغفل عن المحاسبة.
ويلخص أحد أعلام التصوف السني وهو “أحمد بن عجيبة” تلك الحالة الوجدانية في المراقبة بقوله:” المراقبة: إدامة علم العبد بإطلاع الرب، أو القيام بحقوق الله سرا وجهرا خالصا من الأوهام، صادقا في الاحترام، وهي أصل كل خير، وبقدرها تكون المشاهدة، فمن عظمت مراقبته، عظمت بعد ذلك مشاهدته، فمراقبة أهل الظاهر: حفظ الجوارح من الهفوات، ومراقبة أهل الباطن: حفظ القلوب من الاسترسال مع الخواطر والغفلات، ومراقبة أهل باطن الباطن: حفظ السر من المساكنة إلى غير الله”.