أجلسونا كالحيوانات ووزعوا علينا مجلات إباحية.. من رواية مصري أُسر بالسجون الإسرائيلية
هذه الرواية انتهى منها كاتبها بعد خمسة أيام من عودة سيناء لمصر عام ١٩٨٢ م، ظل محمد حسين يونس مؤلفها غير قادر على كتابتها قبل ذلك، مؤلفها كان أحد أسرى الحرب التى ستبقى آثارها على حياتنا وتاريخنا إلى ما شاء الله، ذُل الهزيمة يبقى مهما تطاول الزمن.
أحداث الرواية يرويها طبيب نفسي تعامل مع الأسير حين كان يبحث عن دواء لحالته النفسية. تغلى نفس الأسير السابق بمشاعر تدفعه إلى إطلاق النار على قائد وحدته وعلى قائد اللواء الذي تتبعه، في الثلاثة أبواب الأولى يتحاور الاثنان حول كيفية حدوث الأسر، بدءاً من دفع القوات إلى سيناء، بعض الاحتياط جيء بهم من متاجرهم وبثياب منازلهم، جنود جاؤوا من اليمن دون أن يتاح لهم زيارة عائلاتهم وهكذا، جيش لجب لا تنقصه عدة وعتاد بل ويمتلئ أفراده وطنية وإيماناً بحقهم في الدفاع عن وطنهم، لكن الحرب تنتهي سريعاً ليدرك الجميع أن حشد المقاتلين وحشد السلاح كلاهما لا يكفي ليتحقق النصر، كيف يتحرك جيش ليس معه خرائط، ضباط استطلاعه لا يعرفون كيف يهتدون إلى مواقعهم، بل كيف يتحرك جيش يمر بطرق لا يعلم تضاريسها بينما تغرق جنازير دباباته وعجلات حاملات جنوده في أرض رملية يحتاج معها إلى أن يستخدم البشر في تحريك الآليات الثقيلة، وكيف تتحرك طائرات لم تتدرب على الخطط الحديثة للتشكيلات وليس لديها معلومات كافية عن العدو وتحركاته؟ كيف تتقي مطاراته هجمات طائرات لم تكتشفها شاشات راداره؟ النتيجة أن تصطاد إسرائيل جنوده وتعمل فيهم قتلاً فظيعاً رغم استسلامهم والنتيجة المرة هرب القيادات، المذعورين من الأحياء ينسحبون راجعين في غير تخطيط ليتواروا بصعوبة عن طائرات العدو ومدفعيته، الناجون منهم يقعون في شبكات وضعها العدو لأسرهم تشبه شبكات اصطياد طائر السمان، يُحشد الأسرى.. يُجمعون.. يُوضعون في دوائر متلاصقة، كل منهم مُقعٍ على ركبتيه ويديه خلف رأسه ثم تُطلق زخات من الرصاص، يقتل من في الصف الخارجي، المقتول يحمي بجسده من خلفه في الصف الثاني، بعد أن يتناقص عددهم للنصف تهدأ زخات الرصاص بينما الأحياء متساقطون بين الجثث ينتظرون دورهم، يقترب منه جندي إسرائيلي: ألست من سكان الظاهر؟ من الثانوية الإلهامية، كنا زملاء في المدرسة، تساءل الأسير: ماذا تفعلون بنا؟ صدر الأمر بأن نأسركم، كانت الأوامر ألا نحتفظ بأسرى، أنتم محظوظون.
بدأت بعدها رحلة العذاب الطويلة عبر سيناء، يمرون بالدبابات المدمرة وبالأجسام المتفحمة، باتت المنشآت العسكرية أطلالاً. يُحملون في زرائب متنقلة كل منهم مُقعٍ وقد باعد بين فخذيه ليجلس بينهما أسير آخر وهكذا.. طريقة أقرب إلى طريقة نقل الماشية، من يعطش يشرب بوله، وأكثرهم يتبولون على أنفسهم، بعد ذلك ينقلون في حافلات فاخرة عبر أراض صار اسمها إسرائيل، ماذا يرون؟ حدائق غناء فيها الرائح والغادي من الحسان، عليها شعب يحتفل! تفتح الباب عليهم مجندة زاد عريها عن المألوف، تبصق عليهم، أخيراً ها هي عتليت، السجن المشهور في أحضان جبل الكرمل المطل على شاطئ حيفا.
أسرى منهكون، يتم توزيعهم على عنابر، مراحيضها يكشف كل منها الآخر، لكل كوزٌ لتحضير ماء شربه وكوز أخر لتبوله، أما حين تُغلق الأبواب فيحدث أن بعضهم في الظلام يشرب بوله وآخر يتبول في كوز مائه، يتدافعون على الطعام.. يقتتلون.. يهاجم الجنود الضباط، يستمعون إلى تقريع الصهاينة.. جيش يحاربنا لا يحسن الاصطفاف في طوابير، مع الوقت ينتظم الأسرى ولكل مجموعة رئيسها وقائد توجيهها المعنوي، يوزعون المهام، هذا مهمته جلب الطعام وتقسيمه، وذاك يقوم بتسجيل شهادات الذين يُستدعون للتحقيق، التحقيق ناعم يجريه استخباريون معظمهم يتأهل للدراسات الجامعية العليا في تخصصات علم النفس والاجتماع وما إلى ذلك، في التحقيق يُسأل كل منهم عن دوره وعمله وكيف بنيت حقول الألغام ولماذا يحاربون إسرائيل المسالمة، وهكذا.. يكرمون خلال التحقيق بماء مثلج وزجاجات عصير منغبشة بقطرات الماء وكأس شاي تجعل كل أسير يتوق لجلسة التحقيق.. الهدف واضح.. مع الوقت تسترخي إجراءات السجن.. يتلقى الأسرى هدايا الحكومة المصرية وهدايا عائلاتهم.. سجائر.. ملابس، ويوصل الصهاينة لهم كتباً وصحفاً مثل الجيروزاليم بوست.. أفلام جنس.. مجلات جنسية.. إذاعة داخلية بصوت أنثوي عن تردي الأحوال في مصر، وكذلك تذاع أغان تحرق القلوب: قولوا لعين الشمس ما تحماشي.. لحسن دا جيشنا المصري راجع ماشي.. تتزايد فقرات الترفيه ويتصادق من في المعسكر من الصهاينة مع الأسرى، مجموعات تؤخذ للسياحة في فلسطين المحتلة.. الحياة في الكيبوتسات.. الشواطئ.. المدن العربية، كانوا أولاً يأخذونهم لزيارة عائلات عربية ثم ألغى الصهاينة ذلك وهكذا، كلام عن إسرائيل التي تحب السلام وتدافع عن نفسها.. عن عدم جدوى الحروب.. أهمية المفاوضات المباشرة.. ثم يزورهم قادة صهاينة.. زارهم إسحق رابين وموشي ديان، بعد كل زيارة تتحسن أوضاعهم المعيشية تتعطل الإذاعة المحلية يوماً.. ولا يوجد سبب واضح.. يتبين من الأخبار أن المصريين قاموا بعملية جريئة.. إغراق المدمرة إيلات.. إشاعة كل يوم اقتربت العودة.. يقول المحققون لقد رفض ناصر إطلاقهم مقابل ثلاثة يهود لماذا؟ تتضعضع الروح المعنوية.. لكن مصر أسرت لواء إسرائيلياً كاملاً.. "يا عم دول عشرين بس".. أخيراً تراخت عليهم القيود، تنوعت أنشطتهم: حلقات دينية، حضرات صوفية، غناء، بريدج، قمار، محاضرات تثقيف معنوي يقيمها أسرى.
تعرض الأسرى لمجموعة من الاستجوابات من المحققين، أغلب المحققين مؤهلون سياسياً ونفسياً، كما تعرضوا خلال التسعة أشهر التي قضوها للكثير من التغير في المعاملة ونمط العيش والتأثير النفسي، يجمل الأسير كل ذلك فيما يلي:
إن الصهاينة لا يتركون الدعاية.. وحربهم النفسية مستمرة.. قبل الحرب وأثناءها وبعد الحرب.. وخلال الأسر، وهم يبذلون فيها جهداً كبيراً.. وتخطيطاً علمياً حقيقياً.. قبل الحرب كانوا يذيعون الأغاني عن الأحباب البعيدين.. استغلوا أن حالتنا تستوجب البعد عن أهالينا.. في بداية الأسر كانت دعايتهم مركزة على إسقاطنا من الداخل.. على كسر إنسانيتنا جميعاً.. على تكثيف الإحساس أننا نعيش في غابة، يذكون التنازع والبغضاء بيننا، كنا نشعر بإنسانيتنا أمام الاستجواب، ومع العدو فقط، ثم وصلنا إلى نتيجة خطيرة وهي أنني كمصري بين المصريين محتقر ذليل بينما كإنسان فرد أمام المحقق الصهيونى شخص يستحق الاحترام حتى من عدوه.. يوصلنا ذلك إلى نتيجة خطيرة جداً، أن سبب ذلك هو مصريتي وهو انضمامي لجيش مصر، وأسرى مصر، وكيف توصلنا في النهاية للتبرؤ من مصريتنا.. وعضويتنا بجيشه وانضمامنا لجماعاته.. ثم بعد بث فكرة أنهم لا يحملون لنا أي ضغينة وهم المظلومون المدافعون عن أنفسهم ضد طغيان حكام العرب الذين تدفعهم تطلعاتهم الشخصية وبحثهم عن المجد إلى التضحية بنا، وسائلهم لذلك متعددة.. حبس الأخبار عنا وتركنا عمياناً بين مبصرين.. ثم السماح لنا بالأخبار المُسيطٓر عليها بطرق مختلفة.. وكيف كانوا يقلبون أوجاعنا كلما هدأنا ببيان أو فيلم أو محاضرة أو إشاعة أو استجواب أو كتاب أو أغنية أو قطعة موسيقى.
ثم كيف استغلوا الحرمان وربطوا السيجارة النظيفة والقهوة والشاي والمرطبات بالاستجواب.. وتحويله إلى قضاء وقت ممتع بدلاً من الهرب منه.. كذلك الجنس.. الأذرع والسيقان والصدور العارية.. المجندات الغاديات الرائحات في المعسكر، يعرفون كيف يزيد انفعالنا الجنسي عن طريق المجلة والفيلم (معظم الأفلام التي عرضت كانت تتكلم عن الجنس).. وهكذا استخدم العدو كل شيء.. الخطابات.. الأكل.. النوم.. المرحاض.. الترفيه للوصول بنا إلى هذا الشكل.
كنا كفئران تجارب في معمل أبحاث..
يستذكر راوينا مجموعة من القادة الإسرائيليين الذين زاروا الأسرى المصريين في معسكرهم، آخر من زارهم قبل إطلاق سراحهم كان موشي ديان، قائد المعسكر يعلن: السيد الوزير سيزورنا اليوم، رجل طويل أبيض ذو عصابة سوداء على عينه يرتدي ملابس مدنية بسيطة، بنطلون رمادي فاتح وجاكيت شمواه أخضر زيتوني.. وقميص أبيض مفتوح الياقة.. حركاته خليط من الاعتداد بالنفس ومحاولة التبسط، ليس مرعباً أو مخيفاً، يتكلم الإنجليزية بلهجة أوكسفورد، بدأ الكلام بعربية ركيكة، أنا لا أعرف العربي كويس، متكلم إنجليزي تحتاجون مترجماً، قال كلاماً كثيراً عن السلام والمفاوضات المباشرة، وعدم جدوى الحروب، لكنه في النهاية أطلق قنبلة دعائية، أنا أعرف أنكم رجال عسكريون وستعودون إلى بلادكم والرجل العسكري ينفذ الأوامر، سيأمرونكم بالحرب ضدنا، لن ألومكم، بل أتمنى لكم حظاً أوفر في المرات القادمة، وأن تؤدوا واجباتكم بطريقة أفضل، سكت قليلاً بين علامات الدهشة واستطرد، ولكن إذا حاربتمونا فسنحاربكم وإذا اعتديتم علينا فسنقاوم ولآخر رجل.
هكذا انقلب المنطق أصبحنا نحن الأسرى معتدين متسببين في الحرب، لنتحلى بالخلق الرياضي مثله لنعترف أننا ندفعه للدفاع المشروع عن النفس.
رباه كم هو الفرق بين كلمات ديان المعسولة البسيطة وكلمات فوزي المليئة بالعنجهية والتعالي، كان محمد فوزي مديراً للكلية الحربية ثم أصبح وزيراً للحربية، قارن بين تفكير ونفسية قائد عربي وآخر صهيوني، قال لهم فوزي يوم تخرجهم: (احترموا البدلة التي تلبسونها، لا تشتر فجلاً و طعمية وأنت تتحرك بها ولا تحمل طفلك وأنت تلبسها، استنضفوا لما تتجوزوا مش تتجوز واحدة بملاية لف وتمشي معاها بالبدلة) ظل القرف من تلك المقابلة مع صاحبنا تجاه قائده يملأ نفسه من يومها وما زال.