التوحيد أولى المطالب
كانت العقيدة وما زالت هي أس الدعوات ورأس المطالب، توحيد الله ومعرفته، ودعوة النبيين كلها تدور حول هذا الأصل ومتطلباته وآثاره، فينبغي للإنسان أن يكون هذا هو أول مطالبه ومبدأ علومه، وأصل أصوله.
روى أبو داود في سننه عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: (نذرَ رجلٌ على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ ينحرَ إبلًا ببوانةَ، فأَتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: إنِّي نذرتُ أنْ أنحرَ إبلًا ببوانةَ! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أكانَ فيها وثنٌ مِنْ أوثانِ الجاهليةِ يعبدُ؟ قال: لا. فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أوفِ بنذركَ، وأنهُ لا وفاءَ لنذرٍ في معصيةِ اللهِ تعالى ولا فيما لا يملكُ ابنُ آدمَ) [صحيح أبي داود].
ففي الحديث أن رجلًا نذر -إن وهبه الله تعالى ولدا ذكرا- أن ينحر إبلا أو خمسين شاة برأس بوانة: وهي طريقٍ من الطُّرقِ الَّتي بالجبالِ، وبُوانَةُ: هضَبةٌ وراءَ يَنبُعَ، قريبةٌ مِن ساحلِ البحرِ.
فسأل النبي صلى الله عليه وسلم إن كان فيها شيء من أصنام الجاهلية يعبده الناس قبل الإسلام، أو أن فيها عيدا من أعياد الجاهلية، فلما أجابوه بأن شيئا من ذلك لم يكن، قال له: أوف بنذرك.
فحرَص رسول الله صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم على مُخالفةِ أفعالِ الجاهليَّةِ، والبُعدِ عن كلِّ أفعالِ الكفَّارِ، وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حماية لجناب التوحيد، وسدًّا للذريعة أمام الشرك، فإن ثوبَ العقيدةِ ثوبٌ أبيض ناصع يؤثر فيه أي نقطة سوداء أو أي وسخ أو قذارة.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصون عقيدة أصحابه ويوجههم إلى الاهتمام الشديد بذلك، يأتي الرجل إليه فيقول: (ما شاءَ اللهُ وشئتَ.. فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني للهِ ندًا؟ قلْ: ما شاءَ اللهُ وحدَه).
وعندما قال له أصحابه، اجعل لنا ذات أنواط، أي كشجرة المشركين التي كانوا يعلقون بها سيوفهم يتبركون بها، قال لهم: الله أكبر.. (اللهُ أكبرُ، قُلتُم كما قال قومُ موسَى لموسَى اجعلْ لنا إلهًا كما لهمْ آلهةٌ) [انظر صحيح الترمذي].
ولما رأى شدة محبةَ أصحابه له، وحرصَهم على تكريمه وتعظيمه وتوقيره وتعزيره - وهو أهل لكل هذا - لكنه أراد أن يوجههم حتى لا يخرجوا من الأمر المشروع إلى غير المشروع، فقال لهم: (لا تُطْرُوني كما أَطْرَتِ النصارى ابنَ مريمَ ، فإنما أنا عبدٌ، فقولوا عبدُ اللهِ ورسولُه) [راجع صحيح البخاري].
وبلغ عمر إبَّان خلافته أن بعض الناس يتحرى الصلاةَ عند الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها بيعة الرضوان، فأمر عمرُ بقطعها صيانةً لعقيدة المسلمين وحمايةً لتوحيدهم.
العقيدة العقيدة
إن عقيدة المسلم هي أهم شيء عنده وأغلاه، ولذلك لابد أن يعرفها جيدا ويحافظ عليها من أي شيء يدنسها أو حتى يشوبها، لأنها أصلُ النجاة وسبيلُها، فإذا سلم للعبد إيمانه دخل الجنة يوما ما ولابد، وإن كان عمل قبل ذلك ما عمل.
قال صلى الله عليه وسلم: (من ماتَ وهو يَعْلَمُ أنَّه لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، دَخَلَ الجَنَّةَ) [مسلم].
وروى مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ: (أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ؟ فَقَالَ: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ).
قال الشوكاني رحمه الله: "لا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته، وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" انتهى من "فتح القدير" (1 /717) .
وروى الطبراني والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إلهَ إلا اللهُ؛ نَفَعتْه يومًا من دهرِه، يُصيبُه قبلَ ذلكَ ما أصابَه) [صحيح الترغيب والترهيب].
الجنة لا يدخلها إلا مسلم
إن من عقائد أهل الحق أن الجنة لا يدخلها إلا نفسٌ مسلمة أو مؤمنة، وأن غير المسلمين الذين كفروا بالله وبدين الإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم لا حظَّ لهم في الجنة، لا يدخلونها ولا يجدون ريحها؛ لقوله تعالى: {إنّ الدّين عند الله الإسلام} [آل عمران:19]، ولقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به، إلَّا كانَ مِن أصْحابِ النَّار)ِ [رواه مسلم].
وقد قرر الله تعالى هذا في كتابه فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء:48].
فمن مات كافرا أو مشركا، ولقي الله كذلك فهو من أهل النار خالدا مخلدا فيها أبدا.
قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًاۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل عمران:10]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَاۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة:36، 37].
وكذلك من آمن بوجود الله ولكنه أشرك في عبادته معه سواه، حجرًا كان، أو شجرا، أو صنما، أو وثنا، أو شمسا، أو قمرا، أو بقرا، وكذلك من قصد بعبادته ملكا أو نبيا أو وليا، يصرف إليهم نوعا من العبادة التي لا تكون إلا لله سبحانه، فكل هؤلاء مشركون خالدون في الجحيم. قال سبحانه: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]. وقال أيضا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6].
ويلحق بذلك كل من كفر بأصل من أصول الإيمان الستة، التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها جبريل، حين سأله عن الإيمان فقال: (الإيمانُ أن تُؤمِنَ باللهِ وملائكتِه وكتبِه ورسلِه والجنَّةِ والنَّارِ والقدرِ خيرِه وشرِّه حلوِه ومرِّه من اللهِ)[مسلم].
فمن كفر بأصل منها فهو كافر بها كلها وهو من أهل النار؛ قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:136].
ومن هنا كانت مسألة العقيدة مسألة من أكبر مهمات المسائل بل هي أم المهمات وأصلها، فمن سلمت عقيدته ومات على الإسلام دخل الجنة، إما ابتداء بعفو الله تعالى وفضله، وإما أن يعامله الله بعدله فيعذب بقدر ذنوبه ثم يخرج بعد ذلك من النار ويدخل الجنة، وهذا قانون عام وأصل من أصول أهل السنة، وإن كان المسلم عمل قبل ذلك ما عمل.
وعن أبي ذر قال صلى الله عليه وسلم: (ما مِن عَبْدٍ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ علَى ذلكَ إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟ قالَ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟ قالَ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟ قالَ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ علَى رَغْمِ أنْفِ أبِي ذَرٍّ) [متفق عليه].
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (قال لنا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بايِعوني ألَّا تُشرِكوا باللهِ شيئًا، ولا تَسرِقوا، ولا تَزنوا، ولا تَقتُلوا أولادَكم، ولا تَأْتوا ببُهْتانٍ تَفتَرونَه بيْنَ أيْديكم وأرجُلِكم، ولا تَعصوني في مَعروفٍ، فمَن وَفَّى منكم فأجْرُه على اللهِ، ومَن أصابَ من ذلك فعُوقِبَ به فهو كفَّارةٌ له، ومَن أصابَ من ذلك شيئًا فستَرَه اللهُ فأمْرُه إلى اللهِ؛ إنْ شاء عاقَبَه، وإنْ شاء عَفا عنه) [أصله في الصحيحين].
الكفر محبط للعمل:
أما من فسدت عقيدته فكفر بالله أو أشرك به سواه، ولقي الله على ذلك دخل النار خالدا مخلدا وإن كان عمل قبل ذلك من الخير ما عمل؛ لأن الكفر محبط للأعمال، مضيع لثوابها، وإنما يجازيه الله على خير عمله في الدنيا، وما له في الآخرة من نصيب.
قال سبحانه: {وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5]، وقال: {وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍۢ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} [الفرقان:23]. وقال: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:18]، وقال أيضا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ . أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَاۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ يحسبه} [النور:39، 40].
فلا يمكن أن يستوي من آمن بالله مع من كفر به.
ولا يمكن أن يستوي من وحد الله مع من أشرك به.
{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18].
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [سورة القلم35، 36].
فالعقيدةَ العقيدةَ، والتوحيدَ التوحيدَ.. حافظوا على سلامة عقيدتكم، وصحة إيمانكم، وكمال توحيدكم، لتفوزوا برضوان الله وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، ولتحققوا النجاة والسلامة {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88، 89].